top of page

قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء

Updated: Oct 25, 2023

منذ بداية الخليقة وخروج آدم من الجنة تتجلى حكم الله في كل الأمور، وقد لا يستوعبها عقلنا البشري ولا يتقبلها، ولكنها تبقى موجودة في الخفاء. وكذلك مع بدء عملية طوفان الأقصى من قبل المقاومة الفلسطينية للرد على الاعتداءات المتكررة للكيان الصهيوني على الفلسطينيين، تبادرت الكثير من الأسئلة إلى ذهني. لعل أهمها هو السؤال الجوهري: من سيدفع الثمن؟ لم يكن من الممكن بالنسبة لي أن أتغاضى عن هذا السؤال، فمع إعلان حالة الذعر والهلع على الجانب الإسرائيلي بسبب الهجوم المباغت، كنت أعلم أن الرد سيكون أقسى وأكثر وحشية، وأنه لا يفصلنا عن ذلك سوى ساعات قليلة. لم يكن من الممكن للآلة الإسرائيلية أن تقف مكتوفة الأيدي أمام تهالك منظومتها، بل بالطبع سترد الصاع صاعين. وهذا ما حدث فعلاً. قطاع غزة هو من يدفع ثمن عملية طوفان الأقصى، حيث قطع الماء والغذاء والدواء وأبسط مقومات الحياة، ولم تكن سوى البداية، وسرعان ما انتشرت رائحة الموت في المكان. اليوم نقف أمام مجازر حقيقية وتطهير عرقي للفلسطينيين بدون رادع ولا حسيب ولا رقيب. يقف المجتمع الدولي بصمت مطبق إزاء ما يتعرض له أهل القطاع، بل إن بعضهم يسول لنفسه الدفاع عن إرهاب المنظومة الصهيونية بكونها ذات الأحقية في الأرض وضحية لهجمات إرهابية. لم يكن هذا غريباً علي، فقد اشتدت عودتي وأنا أرى العالم يتخاذل أمام مأساتنا العربية. كيف لي أن أنسى كيف خذل العالم أطفال سوريا واليمن؟ اليوم يكتب التاريخ صفحة جديدة في خذلان الطفولة، حيث تتعالى صيحات أطفال القطاع تستنجد بإنسانيتنا بينما نقف نحن بلا حراك.


تعود إلي لقطات من النكبة الفلسطينية عام ١٩٤٨ مع كل مقطع متداول لأم تفتش عن ابنها بين جموع البشر أو طفل يبحث عن أخته بين الركام. نحن نشهد اليوم بالصوت والصورة نكبة جديدة للشعب الفلسطيني لكن هذه المرة كنا نحن بصيص الأمل الذي انطفئ بلا رجعة. من سيدفع الثمن؟ بالطبع هم أولئك الذين شاءت الأقدار أن يولدوا في رقعة منسية من قبل القانون الدولي، رقعة صغيرة تطل على البحر المتوسط قد تكون في بلد آخر وزمان آخر مصيفاَ يزوره الناس من كل حدب وصوب ليستمتعوا ببحره وشمسه.أولئك الذين كُتِبَ لهم الموت من أجل الحياة، وأولئك الذين ضاقت بهم الأرض فارتقت أرواحهم إلى بارئها بأعداد غفيرة، وأولئك الذين لم يُسأَلوا إن كانوا يرغبون في التضحية بل أصبح ذلك واجبهم. ولكن لم هم وليس نحن؟ لم نملك رفاهية إقفال هاتفنا وأجهزتنا والمضي بحياتنا كأن شيئا لم يكن؟ لم نملك نحن الأحقية بالحياة بينما تنتشر أشلاء أطفال لم تنبت أظفارهم؟ وكيف لنا نحن بأن نملك الحق بالتحدث نيابة عنهم؟ مع كل بيت هٌدم على قاطنيه وكل أم فقدت وليدها وكل أخ فقد أخاه يتكرر الموال ذاته من أفواههم "كله فدا المقاومة، كله فدا فلسطين" بدون أي تردد وبدون خوف بل بيقين وثبات الجبال. يعجز العقل أن يصدق بأي إيمان إلهي يقفون شامخين يأبون الخنوع والاستسلام. أقف حائرة وأنا أرى ثباتهم أمام المصائب بل وتسليمهم الحتمي للإرادة الإلهية. كيف للعقل البشري أن يقتنع بأن كل هذه الدماء المسفوكة لن تذهب أدراج الرياح بل وبأن كل قطرة دم أريقت تحمل في طياتها شعلة أمل بأن النصر قريب.


ولكن من نحن لكي نمني أنفسنا بالنصر الذي لم نحرك ساكنا من أجله؟ بل نتابع ما يحدث من وراء شاشة يتم تجييش مشاعرنا بين كل حين فتنزل دمعة سرعان ما نمسحها ونعود إلى روتين حياتنا الدنيوية. نحتسي قهوتنا الصباحية وقد يعكر صفو مزاجنا مجرد اختلاف طعمها عن المعتاد وقد نغضب بسبب عدم قدرتنا على إيجاد موقف لسيارتنا. مع تفاهة حياتنا، نملك الجرأة بأن ننسب انتصاراتهم إلى أنفسنا بكوننا وجهين لعملة واحدة. المضحك المبكي هو أن انتصاراتنا التافهة اليومية لا تشبع تعطشنا لإثبات ذواتنا فننسب انتصارات من ضحوا وبذلوا أرواحهم إلى ذواتنا في محاولة بائسة منا لتحقيق أنفسنا. لكننا لم ندفع ثمن ذلك الانتصار بل هم فعلوا، لذا إن كنت حقا تريد أن تنسب انتصارهم إلى ذاتك فعليك أن تضحي و من المستحيل أن تبلغ ثمن تضحيتك قيد أنملة مما بذلوه ويستمرون في بذله حتى اللحظة. قد لا يستطيع عقلنا البشري أن يتحمل ما يجري الآن في فلسطين وعلى مرأى كل العالم، ويفشل في تفسير التضحية المستمرة للفلسطينيين عدا عن كونها مأساة بشرية ومجزرة للإنسانية. لكن ومع كل صباح يتجدد الوعد الإلهي بأن الأرض المقدسة ستعود إلى أصحابها سواء شئنا أم أبينا. قد نقف اليوم بألم وحزن إزاء ما يحدث لإخوتنا ولكن اليقين يكمن في الإيمان التام بأن رب السماوات له حكمة في ما يحدث وأننا سنحاول تأويلها والتنبؤ بها قبل حين ولكننا بإمكانياتنا البشرية الهزيلة سنفشل. وأن علينا الاستمرار بالسعي والعلم لنوسع بصيرتنا ونشحذ مداركنا في سبيل أن نكون خلفاء الله في الأرض.

bottom of page